البحث
لدى المساء قصد المدفن الذي يجتمع فيه مع بعض الأقران للسمر والمرح وتبادل أنات الشكوى، وسأله أحدهم:
- كيف انتهى سعيك هذا اليوم.
- فأجاب بفتور.
- كالأيام السابقة.
- فقال آخر:
- أنك تضيع وقتك بين أوغاد، وعندنا أقصر طريق للرخاء.
- فقال بامتعاض.
- وهو أقصر طريق إلى السجن أيضاً .
- فقال الآخر ساخرا :
- الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
سؤال وجواب
سأل العجوز السيدة :
معذرة يا صديقي العمر، لماذا تبذلين نفسك للهوان.
فأجابت بوجوم
من حقك علي أن أصارحك بالحقيقة ، كنت أبيع الحب بأرباح وفيرة فأمسيت أشتريه بخسائر فادحة، ولا حيلة مع هذه الدنيا الشريرة الفاتنة .
التحدي
في غمار جدل سياسي سأل أحد النواب وزيرا :
- هل تستطيع أن تدلني على شخص طاهر لم يلوث؟
- فأجاب الوزير متحديا.
- إليك - على سبيل المثال لا الحصر - الأطفال والمعتوهين والمجانين فالدنيا ما زالت بخير.
المليم
وجدت نفسي طفلا حائرا في الطريق. في يدي مليم، ولكن نسيت تماما ما كلفتني أمي بشرائه، حاولت ان أتذكر ففشلت، ولكن كان من المؤكد أن ما خرجت لشرائه لا يساوي أكثر من مليم.
دموع الضحك
قلت له :
- الحمد الله ، لقد أديت رسالتك كاملة، وبلغت بأسرتك بر الأمان، وانتزعت من وحش الأيام أنيابه الضارية، فآن لك أن تخلد إلى الراحة والسكينة في الأيام القليلة الباقية.
- حدجني بارتياب وسألني :
- هل تذكر أيامنا الطاهرة في الزمان الأول؟
- قرأت هواجسه فقلت:
- ذاك زمان قد مضى وانقضى.
- فقال بنبرة اعتراف :
يا صديقي الوحيد، في عز النصر والرخاء، كثيرا ما بكيت الكرامة الضائعة.
الحوار
رجع الأب إلى البيت فوجد الأبناء في انتظاره ، أخرج حافظه نقوده متجهما وغمغم :
- الأب في زماننا شهيد.
- فالتزموا الصمت.
- ثم تفرقوا تفرق الشهداء.
المتسول
- إنه يسبح في بحر الماضي فتغمره موجه مخضبة بلون قاتم وصداها ينداح في نغمة حزينة لا تتلاشى.
- عندما يكون المرء في العشرين وجارته فوق الخمسين وقد وهبته من الذكريات الحنان والأمومة.
- وفي خلوة بريئة تهل خواطر من عالم الرغبات المتوهجة.
- وتند عن لمعة العين حرارة النداء.
- يشكمه الحياء قليلا وشيء كالخوف.
- يرافقه بعد ذلك الندم ويتسول النسيان.
الوحدة
لزق المنظر البشع بذاكرتها يتزحزح منظر كف الضابط العمياء وهي تهوي على خد أبيها العليل، وبقدر ما كانت تحب أباها وتقدسه بقدر ما خاصمت كل شيء نفسها والعالم من حولها وتتقدم بها السن وهي وحيدة ترمقها ثقوب الكون برثاء.
عيد الميلاد
ما أكثر ما يسير بلا هدف. وإذا التعب نال منه توقف، لكن لم يكف عن مناجاة الأشياء الثابتة والمتحركة في نهاية هذا العام يبلغ الثلاثين من عمره.
وسؤال بعد ثلاثين عاما
بعد انقطاع عشرين عاما عن حي الشباب دعتني مناسبة إلى عبوره ، لولا ما جاش في صدري من عواطف نائمة ما عرفته في عمائره الجديدة وزحامه الصاخب، وثبت عيناي على بيت قديم بقي على حالة فشعرت بابتسامة ترف على الروح والجسد. إنها اليوم وحيدة في الثمانين، وآخر لقاء جمع بيننا بالمصادفة منذ ثلاثين عاما حين أخبرتني بهجرة وحيدها إلى الخارج بصفة نهائية ، ومضيت ومظللتي وقصدت الباب بعد تردد وضغطت على الجرس فتحت شراعة الباب عن وجهة امرأة غريبة فداريت ارتباكي بسؤال : إلا تقيم ست سامية هنا ؟
فأجابت بسرعة:
نحن نقيم هنا من ثلاثة سنوات !
تحولت عن موقفي في حيرة ، وذهبت إلى مشواري وأنا أتسأل ترى أين هي؟ هل تقيم في حي آخر؟ هل لحقت بابنها في الخارج، هل رحلت عن دنيانا دون أن نعلم رغم القربى ؟ وهل يصلح ذلك نهاية لذلك التاريخ المؤجج بالعواطف والأحلام!
وجمعنى في نفس العام مأتم مع الباقين من الأسرة فسألت أحدهم :
- ماذا تعرف عن ست سامية ؟
- فرفع حاجبيه بدهشة وقال :
- أعتقد أنها ما زالت تقيم في البيت القديم!
وجه من الماضي
رأيت ست نفوسه في المنام. ماذا جاء بك بعد غياب سبعين عاما بل يزيد. كانت طلعتك وبشرتك صافية وشعرك غزيرا . وكان بيتك يطل على النيل ، وكنا نزورك كثيرا وكنت أعتبر أوقات زيارتك من أسعد الأوقات، ومن نافذة الحجرة كنت أغوص ببصري في الأمواج الهادئة فيسبح حتى الشاطئ البعيد، لم يبق من الحلم إلا وجهك، وتساؤلي : ترى أما زالت على قيد الحياة ! أما وقائع الحلم فقد تلاشت بعد استيقاظي مباشرة.
المطر
دفعنا المطر إلى مدخل بيت قديم في الخارج صوت انهلال المطر وهزيم الرعد، وفي الدخل لون المغيبن وقفنا متقابلين في المدخل الضيق، وليس معنا إلا بئر السلم وأفكارنا الخفية، قلت لنفسي، يا لها من امرأة!
وسرحت هي في الجو البارد معتزة محتشمة.
قالت وكأنما تحدث نفسها :
- هذا المطر مقلب ما بعده مقلب.
- فقلت وأنا حائر بخواطري.
- إنه رحمة للعالمين.
رجل الساعة
دائما هو قريب مني لا يبرح بصري أو خيالي، يريق على نظراته الهادئة القوية، من وجه محايد فلا يشاركني حزنا أو فرحا. ومن حين لآخر ينظر في ساعته موحيا إلى بأن أفعل مثله، أضيق به أحيانا ولكن إن غاب ساعة ابتلاني الضياع، جميع ما لاقيت في حياتي من تعب أو راحة من صنعه، وهو الذي جعلني أتوق إلى حياة لا يوجد بها ساعة تدق.
الساحرة
مرت بي في خلوتي كالوردة اليانعة فوق الغصن النضير. وانهمرت ذكريات تلك الأيام الباهرة وذهلت لسرعة الزمن. وكنت شكوت إلى صديقي الحكيم بعض ما لقيت، فعقب على شكواي قائلا :
- هل تنكر حظك من دفء الدنيا ونشوتها؟
- عددت الحسنات إقرارا مني بفضل الوهاب فقال :
- جميع تلك الحظوظ ثمرة لإعراضها.
- وبعد صمت قصير سألني:
- ألا تذكر إثارة من إقبالها؟
- فقلت:
- نظرة رضا عابرة تحت النحلة.
- هل تذكر مذاقها؟
- أطيب من جميع الحظوظ مجتمعة.
- فقال بهدوء.
- لذلك أقول لك إنها سر الحياة ونورها.
شق الطريق
كنت أنتظر لصق جدار بالطريق الضيق المكتظ بالناس والدكاكين في ذلك التاريخ كنت معذبا في مقام الحيرة تتجاذبني رياح متضاربة وجذبتني قوة خفية إلى ناحية ما فرأيت عجوزا وقور يشع طيبة وصفاء, إنها لا تساوي شيئا.
أيقنت أنه قرأ هواجسي وأنه يدعوني إلى قطع الروابط.
ارتجفت جوارحي وخفق قلبي بشدة.
وتبدي لي الإغراء في صورة حسناء لم أشهد لجمالها مثيلا من قبل لكني ترددت.
وفي تلك الآونة رجعت زوجتي حاملة قراطيس العطارة جارة أبنائي الثلاثة . وأفقت من غشيتي ، وحملت الأصغر بين يدين وتقدمت أسرتي أشق لها طريقا وسط الزحام.
رجل يحجز مقعدا
بدأ الأوتوبيس مسيرته من الزيتون في نفس اللحظة التي انطلقت فيها سيارة رجل من مسكنه في حلوان.
غيرت كل منهما سرعتها ، أسرعت وأبطأت، وربما توقفت دقيقة أو أكثر تبعا لما لاقته في سيرها من ظروف الطريق.
ولكنهما بلغا ميدان المحطة في وقت واحد، بل ووقع بينهما صدام خفيف، وكان رجل يمر فانحصر بين السيارتين ، وسقط فاقد الحياة. كان يعبر الميدان ليحجز مقعدا في قطار الصعيد.
سر الرجل
كان يمر بمجالسنا وهو يصيح :
- إنها آتية لا ريب فيها .
- ثم يمضي مهرولا فلا يبقى منه إلا منظر ثيابه المهلهلة ونظراته الشاردة ووقعت الكارثة.
- قوم قالوا : إنه ولي من الأولياء.
- وقوم قالوا : ما هو إلا عميل من العملاء.
هدية
في عزلة الشيخوخة وعجزها ينتشر التأمل مثل عبير البخور.
وقال لصاحبه العاكف على العبادة وكأنه يعتذر:
- في زحمة هموم أسرتي ومطالب الشؤون العامة ضاع عمري ، فلم أجد وقتا للعبادة.
- في تلك الليلة زاره في المنام من أهدى إليه وردة بيضاء وهمس في أذنه .
- هدية لا يستحقها إلا العابدون الصادقون.
القبر الذهبي
رأيت في المنام قبرا ذهبيا قائما تحت أغصان شجرة سامقة مغطاة بالبلابل الشادية.
وعلى صدره نقشت بأحرف جميلة واضحة كلمات تقول :
هنيئا لمن كانت نشأته في بوتقة الهجران.
الرسالة
عثرت يوما على وردة مطروحة تحت قدمي . لم تخل من إثارة رونق فالتقطها وإذا بورقة مطوية مربوطة بخيط أبيض حول عودها الأخضر . بسطتها بفضول فقرأت " تعال، ستجدني كما تحب".
سرحت في ابتسامة وتساءلت كيف أخطأت الرسالة هدفها، لماذا ألقى بها في التراب؟ وهمت حينا في وادي الفروض والاحتمالات، ولكني أثنيت على الدنيا التي ينضب فيها معين الحب.
ونسمت على نسائم من الماضي البعيد فخفق القلب بقدر ما أتيح له.
وفجأة تجاوزت ترددي القديم.
وعزمت على أن أبدأ الإجراءات ليكون لي مدفن في هذه المدينة المترامية.
النداء
أحيانا يظهر لي بوجهه الجميل فيلقي إلى نظرة رقيقة ويهمس :
" أترك كل شيء واتبعني"
قد يلقاني وأنا في غاية الإحباط، وقد يلقاني وأنا في نهاية السرور، ودائما ينتزع من صدري الطرب والعصيان.
وكلانا لم يعرف اليأس بعد.
المنشود
في غمار شيخوخة وعزلة وأفكار يقطر منها ماء الورد.
ترددت أنفاس الوعد المنشود.
ودق الجرس على غير توقع وجاءت الجرة مستأذنة ، واندمجت فيما أنا مندمج فيه حتى آمنت بأنها الوعد المنشود.
الغوص في الماء
شهد ذات ليلة خسوف القمر، وتلقى من تعاسته المتوارية خلف الغلالة المظلمة كآبة قطعت ما بينه وبين الأشياء، لم يعد يأنس لشيء واحتار الأطباء فيه. ونصح بالهجرة إلى مكان ناء لتغيير المنظر والمخبر. ذهب يائسا يتجول على شاطئ البحر وعلى بعد رأى شمسية تستكين فيها امرأة شبه عارية غاية في الجمال والسكينة. انجذب نحوها كأول شيء يلقاه فلا يبعث في نفسه الكآبة والوحشة، وشعر بأنها ترحب به دون كلمة أو حركة فاستخفه الطرب. وقامت متوجهة نحو الماء فتجرد من ثيابه وتبعها وخاضا في الماء معا دون أن يلقيا على ما وراءهما نظرة واحدة.
التوبة
مرت أمامي الجميلة الفاتنة وهي تتأود وتتنهد فلم ألتفت إليها. نعمت في ذلك الوقت الجاف بإرضاء كبرياء الزهد والإعراض عن مغريات الدنيا.
وثبت إلى طبيعتي في ليلة قمرية ذات بهاء. وسعيت وراء الجميلة الفاتنة وأنا مشفق من العقاب، ولكنها تلقتني بابتسامة وقالت :
- لتهنأ بمصيرك فإنني أقبل التوبة.
التسبيح
في وضح النهار والحارة تموج بأهلها من النساء والرجال والأطفال ، والدكاكين على الصفين تستعد لاستقبال الزبائن.
في وضح النهار سقط رجل ضعيف ضحية لعملاق جبار.
وشاهد الناس الجريمة. وتوارو في برج الخوف.
لم يشهد منهم أحد ومضى القاتل آمنا.
وشهد الدرويش الحادث ولكنه لم يسأل للاعتقاد الراسخ في بلاهته.
وغضب الإبلة غضبا كدما ( عضوضا ) فعزم على الانتقام من الجميع.
كلما واتته فرصة قضى على رجل أو امرأة وهو يسبح لله.
ليلة القدر
زينا حجرة الاستقبال بالورود وتسلل البخور من نوافذ بيتنا إلى باب عرض الطريق.
وأعددنا من أسباب السرور ما يلذ السمع والبصر والذوق. وأملنا كالآخرين أن ينزل الشيخ في ضيافتنا ويسهر عندنا ليلة القدر. واستغرق والدي في التلاوة وجعلت أذهب وأجئ بين النافذة والباب المفتوح.
وفجأة تعالت في جلال الليل زغرودة من بيت أحد الجيران.
وتبادلنا نظرات الآسى في صمت وقال أبي متنهداً :
لا يريد الحظ أن يبتسم بعد.
همسة عند الفجر
في مرحلة حاسمة من العمر عندما تنسم بي الحب ذروة الحيرة والشوق همس في أذني صوت عند الفجر:
- هنيئا لك فقد حم الوداع.
- وأغمضت عيني من التأثر ، فرأيت جنازتي تسير وأنا في مقدمها أسير حاملا كأسا كبيرا مترعة برحيق الحياة.
الهجر
لم أشعر بأنه مات حقا إلا في مأتمه
شغلت المقاعد بالمعزين وتتابعت تلاوة القرآن الكريم وانهمك كل متجاورين في حديث، فذكرت حوادث لا حصر لها ، إلا الراحل فلم يذكره أحد.
حقا لقد غادرت الدنيا أيها العزيز، كما أنها قد غادرتك.
هيهات
ما ضنت علي بشيء جميل مما تملك، فنهلت من ينبوع الحسن حتى ارتويت. ولكن البطر بالنعمة قد يرتدي قناع الضجر.
ومن أمارات خيبتي أني فرحت بالفراق، وعلى مدى طريقي الطويل لم يفارقني الندم وحتى اليوم يرمقني هيكلها العظمي ساخرا.
البلهاء
كانت خادمة بلهاء ويدعونها الشيخة، وكانت الست وحيدة في الحلقة السادسة، وكان البيت يضطرب أحياناً تحت وطأة الرغبة. وتسلل الاضطراب إلى روح الخادمة البلهاء فاستحوذت عليها الكآبة. وسألتها الست وكانت تعطف عليها :
- مالك يا شيخه؟
- فأجابت بتأفف:
- أنا ذاهبة.
- فانزعجت الست وتساءلت:
- وتتركيني وحدي يا شيخة؟
- فقالت بحدة:
- لست وحدك يا فاجرة.
الحياة
- أجبرتني ظروف الحياة يوما لأكون قاطع طريق وبدأت أول ممارستي في ليلة مظلمة فانقضضت على عابر سبيل.
- وارتعب الرجل بشدة شارفت به الموت وهتف برجاء حار :
- خذ جميع ما أملك حلالا لك ، ولكن لا تمس حياتي بسوء.
- ومنذ تلك اللحظة وأنا أحوم بروحي حول سر الحياة.
اللحن
في حلم ثان وجدتني في حجرة متوسطة يضيئها مصباح غازي يتدلى من سقفها. في ركن منها جلس جماعة من الرجال والنساء على شلت متقابلة يتسامرون ويضحكون بأصوات مرتفعة. لم يكن في الجدران باب ولا نافذة إلا فتحة صغيرة في اتساع عين منظار، مرتفعة بعض الشيء فلم أر منها إلا سماء تتوارى وراء المساء. شعرت برغبة شديدة في العودة إلى أهلي وداري. ولم أدر كيف يمكن أن يتيسر لي ذلك . وسألت السمار:
- أكرمكم الله ، كيف أستطيع الخروج من هنا ؟
- فلم يلتفت إلى أحد، وواصلوا السمر والضحك وغزت الوحشة أعماقي، عند ذاك لاح من خلال الفتحة وجه غير واضح المعالم وقال لي :
- إليك هذا اللحن، احفظه مني جيدا، وترنم به عند الحاجة، وستجد فيه الشفاء من كل هم وغم.
الفتنة
كنت أتمشى عند الباب الأخضر فصادفت درويشا منتحيا جانب بامرأة . كانت وسيطة العمر ، ريانة الجسم فواحة الأنوثة، محتشمة النظرة.
ولما اقتربت منهما سمعتها تقول :
- يا سيدنا، إني أرملة ، أعيش مع شقيقتي ، مستورة والحمد الله ، ولكني أخاف الفتنة.
- فقال لها :
- أدي الفرائض.
- فقالت بصدق :
- لا تفوتني فريضة.
- وأضافت:
- وأسمع تلاوة القرآن لدى كل فرصة.
- فقال :
- إن يمسك الشيطان .
- فقالت :
- ولكن أخاف الفتنة.